صعود الرفاه المفاجئ- رسالة الإسلاميين في انتخابات تركيا المحلية

المؤلف: صالحة علام11.08.2025
صعود الرفاه المفاجئ- رسالة الإسلاميين في انتخابات تركيا المحلية

شكلت نتائج الانتخابات المحلية التركية الأخيرة هزة عنيفة، وأثارت موجة من الاستغراب والذهول في صفوف كافة الأحزاب السياسية في تركيا، سواء كانت فائزة أو خاسرة. هذه الحالة الاستثنائية تتطلب دراسة متأنية، وتحليلًا معمقًا، واستخلاصًا للدروس والعبر القيمة.

صعود باهر

بغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء فوز قوى المعارضة، أو الإخفاق الذي طال الحزب الحاكم، فإن إحدى أبرز الظواهر اللافتة التي أسفرت عنها هذه الانتخابات، هي التحول الدراماتيكي لحزب الرفاه الجديد. فبعد أن كان حزبًا مهمشًا بلا وزن أو تأثير، صعد بشكل مفاجئ ليحتل المرتبة الثالثة في عدد الأصوات التي حصل عليها من الناخبين، بعد كل من حزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة والتنمية.

لقد حقق حزب الرفاه نجاحًا باهرًا في استعادة بلديتي شانلي أورفة ويوزغات من قبضة حزب العدالة والتنمية، بالإضافة إلى الفوز برئاسة سبع وستين بلدية أخرى في مختلف أنحاء تركيا. هذا الإنجاز تجاوز توقعات الكثيرين، وتخطى أحزابًا أخرى أكثر عراقة وانتشارًا وشعبية، بل وأقوى نفوذًا على الساحة السياسية التركية، مثل حزبي الحركة القومية والجيد.

إن الدهشة التي أثارتها نتائج حزب الرفاه الجديد تعود إلى كونه أحد أبرز المفاجآت غير المتوقعة. فالمتوقع دائمًا كان أن تتجه الأنظار نحو حزبي المستقبل برئاسة أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء الأسبق، والتقدم والديمقراطية برئاسة علي باباجان، في حال أراد الإسلاميون والمحافظون، الذين يشكلون القاعدة الانتخابية التقليدية لحزب العدالة والتنمية، توجيه رسالة قوية لحزبهم، وتقويم مساره عبر "تنبيه" بسيط يدفعه إلى تعديل سياساته والعودة إلى الطريق الصحيح.

ملف السياسة الخارجية الحساس

إذا كان الخلاف يتعلق بشكل مباشر بآليات تعامل الحزب مع ملف السياسة الخارجية، في حال تعارضها مع مبادئهم وثوابتهم التي ترتكز على قيم الإسلام، فإن أحمد داود أوغلو وحزبه المستقبل كانا الأجدر بالاستحواذ على تلك الأصوات التي امتنعت عن التصويت لحزب العدالة والتنمية. وذلك بحكم كونه مهندس السياسة الخارجية لتركيا في المراحل السابقة، والداعم الرئيسي لتعزيز التقارب بين تركيا ودول العالم الإسلامي، والأكثر قدرة على تصحيح المسار في هذا الملف، بما يضمن لتركيا استعادة دورها كمدافع عن قضايا الشعوب الإسلامية، والمتحدث باسمها في المحافل الدولية، والسعي الحثيث لإزالة أي خلافات تعيق قيامها بهذا الدور المحوري، الذي يمنحها مكانة إقليمية ودولية مرموقة.

الأزمة الاقتصادية الخانقة

أما إذا كانت القضية مرتبطة بالأزمة الاقتصادية الطاحنة، وارتفاع الأسعار غير المسبوق الذي يئن تحته المواطن البسيط، فإن علي باباجان وحزبه الديمقراطية والتقدم كانا الأحق باستقطاب أصوات الغاضبين والمتضررين من سياسات الحكومة الاقتصادية. خاصة أن باباجان يعتبر المهندس الفعلي للسياسة الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية في بداية مسيرته، الأمر الذي أحدث طفرة اقتصادية كبيرة وحالة من الازدهار والاستقرار لم يشهدها الأتراك منذ عقود طويلة، بعد أن نجح في إحداث نقلة نوعية في الاقتصاد التركي، مكنته من رفع متوسط دخل الفرد بشكل ملحوظ.

لكن بوصلة ناخبي حزب العدالة والتنمية الذين أدلوا بأصواتهم لم تتوجه إلى هذا الطرف أو ذاك، بل وجهوا أصواتهم نحو وجهة أخرى لم تكن مطروحة أو متوقعة على الإطلاق. لقد اتجهوا نحو حزب الرفاه الجديد، الذي أسسه فاتح أربكان نجل الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان، في عام 2018 عقب انفصاله عن حزب السعادة. هذه الإشارة القوية يجب ألا يغفل عنها أصحاب القرار المعنيون بالتوجه الإسلامي لتركيا على وجه الخصوص.

خارطة طريق واضحة لرجال السياسة

جاء هذا التصويت بمثابة رسم لخريطة طريق جديدة لرجال السياسة، وتوضيح للشكل الأمثل للسلطة التي يطمح إليها الإسلاميون لإدارة البلاد سياسيًا واقتصاديًا. وهو الشكل الذي ينطلق من أفكار ورؤى الراحل نجم الدين أربكان، ونهجه المتميز في إدارة شؤون البلاد داخليًا وخارجيًا على وجه التحديد، وليس وفقًا لنهج غيره من السياسيين، حتى وإن كانوا ممن تربوا على يديه، أو نشأوا في كنف حزبه.

تبدو هذه الإشارة وكأنها تعبر عن رغبة حقيقية من جانب الإسلاميين في تركيا للعودة إلى الجذور والمنابع الأولى التي انطلقت منها الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية في البلاد، وإلى الثوابت والمبادئ الراسخة التي تعتمد على أسس الحق والعدل والمساواة، والتي وضعها الراحل نجم الدين أربكان. فقد شعر الإسلاميون والمحافظون بأنه لم يعد لهذه القيم وجود حقيقي وملموس في ممارسات الأحزاب التي تمثلهم على الساحة السياسية، على اختلاف أسمائها، بعد أن قضت أكثر من عقدين من الزمان في السلطة.

هذا الأمر تحديدًا هو ما تنبه إليه فاتح أربكان، حيث عمل منذ تأسيس حزبه على تبني الرؤية الوطنية الشاملة التي وضعها نجم الدين أربكان، والتي ترتكز في جوهرها على عدة نقاط أساسية، شكلت المصدر الفكري لجميع الأحزاب التي أسسها أربكان نفسه. وتتمثل هذه النقاط في ضرورة العمل الجاد على إحياء الحضارة الإسلامية العريقة، والسعي الدؤوب لإعادة توحيد العالم الإسلامي مجددًا، وتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي والفكري لتركيا، وإبعادها عن دائرة الهيمنة الغربية. وقد أعلن أربكان الابن أن الركيزة الأساسية لحزبه تعتمد على حركة "الملي جوروش" التي تضم تحت لوائها غالبية الجماعات الإسلامية والطرق الصوفية المنتشرة بكثرة في المجتمع التركي.

تحقيق الرؤية الوطنية الطموحة

وانطلاقًا من هذه الرؤية الواضحة، جاءت موافقة حزب الرفاه الجديد على الانضمام إلى تحالف الجمهور مع كل من أحزاب العدالة والتنمية، والحركة القومية، والاتحاد الكبير، وهدى بار، بعد أن تبين له أن مرشح تحالف المعارضة للرئاسة كمال كليجدار أوغلو لا يرى أي حرج في التصريح بأن الشذوذ الجنسي لا يمثل تهديدًا للأسرة التركية، ولا ينذر بتفككها، وأنه لا يخفي دعمه المطلق لهذه الفئة من المنحرفين.

وقد نجح حزب الرفاه من خلال هذا التحالف في حجز خمسة مقاعد له في البرلمان، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ تأسيسه. ولكنه وبعد مضي ما يقرب من العشرة أشهر، رفض دعوة الانضمام إلى تحالف الجمهور مرة أخرى لخوض الانتخابات المحلية الأخيرة.

جاء قرار الرفض بعد متابعة دقيقة وتقييم شامل للسياسات التي اعتمدتها الحكومة على صعيد علاقاتها السياسية والاقتصادية، وتعاملها مع القضايا الداخلية، والتي تتعارض في مجملها مع الثوابت الفكرية التي ينطلق منها الحزب، وتبتعد كل البعد عن أفكار ورؤى الراحل أربكان في الحكم، والأسس التي يجب أن تنطلق منها ممارسات تركيا الداخلية، وعلاقاتها السياسية والاقتصادية، سواء مع محيطها الإقليمي أو في تعاملها مع العالم الغربي.

لم يكتفِ رئيس حزب الرفاه برفض الانضمام للتحالف الانتخابي مع حزب العدالة والتنمية، بل تعمد خلال حملته الانتخابية توجيه أقسى الانتقادات للحكومة، وطريقة تعاملها مع الملفات التي تهم العالم الإسلامي على وجه الخصوص، والتي تخالف رؤية أربكان بشكل كبير.

فقد قام بمهاجمة حزب العدالة والتنمية من خلال استغلال المعلومات المتداولة حول استمرار التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل، في الوقت الذي تشن فيه الأخيرة حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، تارة بالعمليات العسكرية الهمجية والتفجيرات العشوائية واستهداف المستشفيات والمدارس والبنية التحتية، وتارة أخرى من خلال اعتماد سياسة التجويع لقتل المدنيين العزل من سكان المدينة المحاصرة.

هذا الملف تحديدًا كان سببًا في إحداث شرخ عميق بين حزب العدالة والتنمية وقاعدته الانتخابية العريضة. بالإضافة إلى تعامل الحزب مع مسألة انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وخضوعه التام لتلبية رغبة واشنطن على حساب أمن تركيا القومي ومصالحها العليا، وممارساته غير المقبولة فيما يتعلق بملف اللاجئين، إلى جانب الإخفاقات المتتالية لسياساته الاقتصادية، وعدم قدرتها على تلبية طموحات وتطلعات المواطنين. لذا، امتنعت شريحة واسعة منهم عن التصويت تمامًا في هذه الانتخابات، بلغت نسبتها حوالي 10%، بينما صوت آخرون لصالح حزب الرفاه الجديد، الذي نجح في الحصول على أصوات 6.19% من إجمالي أصوات الناخبين على مستوى تركيا.

فاتح أربكان، الذي أعلن بفخر أن عدد مؤيدي حزبه قد ازداد بنسبة 100% خلال هذه الانتخابات، أرجع هذا النجاح الباهر الذي حققه الحزب إلى سعيه الدؤوب من أجل إحياء الرؤية الوطنية الشاملة التي وضعها الراحل نجم الدين أربكان، والعودة إلى المنبع الصافي الذي يجب أن تستقي منه الأحزاب ذات التوجه الإسلامي سياساتها وبرامجها؛ تحقيقًا لرغبات وتطلعات مؤيديها وعموم المنتمين إلى التيار الإسلامي.. فهل من مستجيب؟!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة